التائب
يا رب ؛ هل من توبة فأتوبَ ؟ هل من عفو فأتعلقَ به ؟ إن ذنبي كبير ، ووزري خطير ، وإثمي جثم على قلبي ، ما من فاحشة إلا ارتكبت ، ولا ظلم إلا فعلت ، ولا كبيرة إلا اجترحت ، وها أنذا أشعر كأن الجبال الرواسي تحطم صدري ، والبحار تفجّر فؤادي ، والندم يأكل قلبي ....
هل من توبة فأتوب ؟ هل من أوبة فأثوب ؟ يا غفار قد لجأت إليك ، وعوّلت عليك ، فلا تردني كسيراً ... أعلم أنني أسأت إلى نفسي وإلى عبادك ، وهل أكبر جرماً من معتد قتل تسعة وتسعين نفساً ؟!. إلا أن رحمتك أكبر ، وعفوك أوسع ، وغفرانك أرحب ، اللهم لا تردني خائباً .. اللهم لا تردني خائباً ...
وانطلق عمّن يبثه سريرة نفسه ، ويعلن التوبة والإنابة إلى الله على يديه . فدلّوه على راهب انقطع إلى صخرة يتبتل في فيئها ، ويعبد الله في ظلها . فباح له بمكنونات نفسه ، واعترف له بما فعل .. لم يكن الراهب سوى عابد جاهل لم يعرف الله حق المعرفة . جهل أن الإنسان إذا جاء بقراب الأرض خطايا نادماً تائباً قبله الله تعالى بملئها عفواً ومغفرة . فقال الراهب للرجل مستعظماً ما فعله بملء فيه : لا توبة لك ، لا توبة لك . ...
واسودت الدنيا بعيني الرجل ، وشعر بالإحباط يشله . ثم حرّكه شيطانه ، فوثب على الراهب فقتله فأكمل به المئة ... ثم ثاب إلى رشده يقول : إنّ من يقتل مئة كمن يقتل تسعة وتسعين ، والتوبة لا تقف عند حد . ..
هل من رجل يتوب على يديه ؟ هل من عالم يروي ظمأه ؟ إنه يبحث عن أعلم أهل الأرض كي يرتاح بمساعدته من وَعثاء الطريق المظلم ، وينتشله من وهدة المفاسد ... فدلوه على رجل عالم آنس منه أذناً صاغية ووجهاً مشرقاً ، وذهناً وقّاداً ، وبصيرة نافذة . ففضفض له عما في نفسه ، وقال له : هل من توبة؟ أيغفر الله لي أفعالي وجرائر أعمالي ؟ أجابه العالم إجابة الواثق مما يقول : نعم ؛ ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ .
قال التائب : يا سيدي إني فعلتُ وفعلتُ .
قال له العالم : إنه سبحانه يفرح بتوبة عبده أشدّ مما يفرح العبد بتوبته .
قال التائب : ولكنني أسرفت في الفساد ، وروّعت العباد ، ولم أترك مَوبقاً إلا أتيته !.
قال العالم : يقول الله تعالى مخاطباً أمثالك " قل : يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إنه يغفر الذنوب جميعاً ، إنه هو الغفور الرحيم " لا شيء يحول بينك ، وبين التوبة يا أخي ... أسرعْ إلى الله يسرع إليك . ، واستغفره يغفرْ لك .
لم يتمالك الرجل أن بكى من الفرح . وأي فرح أعظمُ من الرجوع إلى حظيرة التقوى وروضة الإيمان ؟ هنالك حيث تتخلص الأرواح من أدرانها ، وتعيش في طهر الملائك السابحين في ملكوت الله ..
ولكنْ يا أخي – قال العالم للرجل – أنت بحاجة إلى من يشدّ أزرك ، ويأخذ بيدك إلى الخير ، ويدلك على طريقه ، وتلك الأرض التي كنت فيها أرض فساد وشر ، فلا تعُد إليها ، وانطلق إلى أرض كذا وكذا ، فهي عامرة بالحب والتقوى ، وفيها أناس يعبدون الله تعالى ، فاعبد الله معهم ، فمن خالط السعيد سعِد، ومن عاشر المؤمن استقى منه ، إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية . فابحث عن المجتمع المؤمن الطاهر تكن طاهراً ، وابتعد عن المجتمع الفاسد تنجُ منه وتتّقِ شرّه .
انطلق الرجل التائب إلى تلك الأرض بنفس غير التي كانت له ، وروح غير الروح التي كان يحملها ، انطلق بإيمانه الجديد ونفسه الطموح ، وروحه الوثـّابة إلى عالم الأمن والامان ، إلى مجتمع الفضيلة والرشاد ، يسأل الله العون والسداد ، يلهج لسانُه بذكر الله ، وتتحرك جوانحه شوقاً إلى إخوانه في العقيدة .
وانتصف الطريق أو كاد ، ولم يبلغِ الأمل المنشود . كانت نيتُه صحيحة ، ورغبته في الهدى صادقة ، إلا أن الأجل وافاه ، وملك الموت قبض روحه ، ولكل أجل كتاب .
تنازعت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فيه ، كل فريق يريد أخذه .
قالت ملائكة الرحمة : نحن أحق به ، فقد جاء إلى الله تائباً ، مقبلاً بقلبه ، عازماً على فعل الخير ، مصمماً على نسيان ماضيه ، والبدءِ من جديد إنساناً مؤمناً تقيّاً .
قالت ملائكة العذاب : بل نحن أحقّ به ، إنه لم يعمل خيراً قطُّ .
واختصمت فيه ، كل فريق يُدلي بحجته ، ويسعى لأخذه .
وأراد الله عز وجل أن يعلّم ملائكته أولاً ، والناسَ ثانياً إن التوبة إنْ صحّتْ ، والإنابة إن تأكّدَتْ فالعمل تبَعٌ لها ، وكأيّنْ من أناس دخلوا الجنّة ، ولمّا يصلّوا لله ركعة واحدة إذ وافتهم مناياهم ، وقد خضعت قلوبهم لذكر الله ، فآمنوا به ، وأسلموا له .
أراد الله برحمته أن يعرّف عباده أن اللجوء إليه نجاة ٌمن النار ، ويالها من نجاة ! وفوزٌ بالجنه ، وياله من فوز! ، فأرسل ملَكاً في صورة آدميّ - تنويهاً ببني آدم ، وتنبيهاً إلى أنّ منهم من يصلح لأن يفصل بين الملائكة إذا تنازعوا – فحكّموه بينهم ، فقال لهم :
قيسوا ما بين الأرضَين ، فإلى أيتهما كان أقربَ فهو له .
فأوحى الله إلى أرض السوء أن تباعدي . وإلى أرض الخير أن تقرّبي .
فقاسوا ما بينهما ، فوجدوا الرجل التائب أقرب إلى الأرض التي قصدها بشبرواحد! ياسبحان الله ، ويارحمة الله ! ... صدَق اللهَ ، فصَدَقه الله ُ ... صار أقربَ إلى أرض النور والإيمان بفضل الواحد الديّان ... فقبضتْه ملائكة الرحمة .
0 التعليقات:
إرسال تعليق
نشكركم للمتابعه معنا : ما رأيكم بالموضوع ؟
اضف ردا هنا..